تجنبا للسذاجة والابتذال في الافتتاحيه النمطية لوصف مدرسة في حقبة نهاية السبعينيات الميلادية، والتي لن ابجلها وسأقول الآتي : درست الابتدائية في مبنى مستأجر - اسطبل بشري- يطوف به جلاوزه وأشباة الكهان وكرماء وبخلاء ووجدانيون وفضلاء وتأهون ، جدران خشنة وكئيبه تشبة ثكنات فرسان الحروب في القرن السابع ، ذكريات المدرسة الابتدائية لا تختلف كثيرا عن سردية قسوة المعلم في رواية ام النذور لعبدالرحمن المنيف– تكاد تكون هي بحكم القرب الجغرافي- لكنها ابهت وارخص ثمنا ، كتبها روائي ساخر أو يعتقد أنه كذلك ،محشوه بالبؤس ونمطية السرد وقم للمعلم كما قال احمد شوقي، لا أتذكر منها إلا ترسيخ المفهوم النمطي والوعظ والحشو القسري للمعلومات وتفتيش الاظافر وتقبل تهمة الخذلان العربي وترسيخها في الذاكرة الذهنية بسبب سطوة المعلم ( العربي ) وتناقض المعلم ( الوطني) حديث العهد بالصنعة الذي يعيد التجربة الثقافية القبلية والدينية المتناقضة.
اعتقد ان العرب جميعا ضحايا تربية الحوار الكلاسيكي القبلي، اجيالهم السابقة بكل الأقطار العربية نشأت تحت وطأة السيد المعلم ابتداء من دروس الدين – المطوع- الى الجامعات اليوم، مازلت أرى أهمية الجامعة الفاعلة في المجتمع والاقتصاد ، يجب أن تخلو من خطوط الإنتاج البشرية الغير جاهزة لا للحياة ولا للتنمية ، باستثناء حالات فردية من مؤسسات جامعية وطلبة و محاضرين ، هؤلاء مشكورين قدموا نموذج للشجرة القابلة للحياة.
فلسفة التعليم النظامي عالميا بحاجة إلى تجديد، جون ديوي (أمريكي) من أشهر الفلاسفة النقاد الناقمين على فلسفة "الحفظ والتسميع"، ويرى الفرنسي ميشيل فوكو كذلك طرق بديلة للتعليم ترتكز على حرية الطالب وتمكينه بدلا من تجريده من الهوية وإخضاعه للقوالب النمطية، لا نعلم ربما تطور الذكاء الاصطناعي سيغير مجرى التاريخ لتخريج طلبة بعقول تفكر وتحلل بدلا من سرد معلومة تكونت في العقل بحكم التلقين القسري.
لا تختلف المرحلة المتوسطة كثيرا، ولكن عزائي كان في الاستقرار العائلي بعد الهروب إلى المنزل، برغم تشابه ثقافة الاسر آنذاك كان والدي مختلف، مارس العمل الاجتماعي ويدرك أهمية الاحتواء والتفهم مع خليط من الشخصية القوية واللينة، كان احتواؤه مختلف تماما عن الاخرين مثل الثقة المطلقة ومشاركة الاعمال المنزلية ولاحقا رحلات الصحراء ومغامرة الزراعة التي اثمرت في النفس وزراعة القيم أكثر من الأرض. كانت المزرعة بالنسبة لي مرتعا للحرية المطلقة الجامعة بين المكان والزمان الصحيحين والتي ولدت فكرة خوض التجربة – أي تجربة – سواء تأمل النبات والحيوان أو الألة أو حديث الأمهات والجدات والغرباء والضيوف، هنا اعتقد تكمن البركة! لم اخالط أصدقاء بمعنى دقيق وكان الأخوة والام والاخوات و ( محمود) هم الأصدقاء حرفيا في هذه المرحلة.
اكتملت البنية الفكرية الأولية في أيام الثانوية العامة بنرجسية محمودة وبدأت ملامح التمرد بحكم اندفاعي المطلق للتعبير عن التحرر بإستخدام أدوات السخرية ،أعطي هذا التمرد مزيدا من الوقود في المدرسة وكلفت للمشاركة في النشاط المسرحي برغم تواضع ممكنات التجربة، ساهمت هذه التجربة في دعم الثقة بالنفس وخلق منهج خاص يتسم بالترحيب بكل أنواع البشر والدواب والفشل والنجاح والقبول والتسليم والرفض والسعادة والحزن والمدح والإساءة، أعتقد أن السبب هو بقاء والدي في زاوية حياد وتروي للنظر في نتائج هذا المنهج وبدا لي لاحقا الحكمه من ذلك. أن ما يدور في هذه المدينة ومحل اهتمام جيلنا النمطي مثل كرة القدم وتجمعات البلهاء والهاربين من سطوة الأسرة كان هراء ، لأنه لا يرتقي لما هو أجمل من الحياة في الفضاء المتسامح في المزرعة، أصبحت لاحقا العلاقة عاطفية بشكل لافت واعتبرت المزرعة مكافئة، حتى تاريخ اليوم هذه العلاقة غرامية بسبب ان معالم المكان تهمس بالذكريات بدون توقف خاصة وان المكون المكاني لم يتغير، نمت الأشجار وفقد بعض الاحباء.